عُقدتْ أمس ندوةٌ بعنوان «مسألة الهُوية» في معهد الدوحة للدراسات العُليا، وذلك ضمن فعاليات «موسم الندوات» الذي تنظمُه وزارة الثقافة، بالشراكة مع جامعة قطر والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الفترة من 17 حتى 31 مارس الجاري، وقد حضرَ الندوةَ سعادةُ الشَّيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثقافة، وجمعٌ من المثقفين والباحثين والكتاب، وتحدثَ خلالها المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وأدارتها الإعلاميّة آمال عراب.

أصل الهُوية:

وقالَ الدكتورُ عزمي بشارة: إن مسألة الهوية يشوب بحثها بعض الارتباك بسبب رواج المصطلح في الحياة اليومية والإعلام والأدب والعلوم الاجتماعية إلى درجة تصعب تحديد هُوية مصطلح الهوية، مشيرًا إلى أنه بدأ استخدام لفظ الهوية في الفلسفة، ولكنه درج في الاستخدام اليومي في العصر الحديث، وأصبح كذلك مصطلحًا في العلوم الاجتماعية، موضحًا وجود فرقٍ بين مصدر سؤال الهُوية فَلْسَفِيًا، ومسألة الهُوية كما نفهمها في الواقع الاجتماعي، وهي الأقرب إلى الإشكاليات التي تثيرها تخصصات مثل علم النفس الاجتماعي والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية، وهي تخصصاتٌ متشابكةٌ حين يتعلقُ الأمر بسؤال الهُوية. وقالَ: إنَّ أصل لفظ الهوية العربي يعود إلى محاولات العرب في القرن الثالث الهجري إيجاد ترجمةٍ للمصطلحات الفلسفية اليونانية المتعلقة بوجود الموجودات، لافتًا إلى أنَّ الإنسان الفرد لا يصنف بالضرورة إلى جماعات الهوية، وذلك خلافًا لتصنيفه بوصفه إنسانًا، أو كائنًا ناطقًا، أو عاقلًا، أو كائنًا أَخْلَاقِيًّا عند تحديد ماهيته الإنسانية، وأن الإنسان يشعرُ بالانتماء إلى عائلته. هذه ليست مجرد فئة يصنف إليها. ويشعرُ أيضًا بالانتماء إلى جماعاتٍ حميميةٍ أخرى يشعر تجاهها بالألفة. ويصبح هذا الشعور بالانتماء والحاجة إليه جزءًا من شخصيته إلى درجة إسقاطه على جماعاتٍ كبيرةٍ من الناس لا يعرفهم ولم يلتقِ بهم في حياته.

معطياتٍ اجتماعيَّة:

كما عَرَّجَ مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مسألة الهُوية الذاتية والاجتماعية للفرد، وأنها مسألةٌ حديثةٌ نشأت مع نشوء الفرد القادر على التفكير ب «أناه» المتواصلة المستمرة رغم التحولات والتبدلات في مسار حياته، موضحًا أن مسألة الهُوية تنشأ من التفكير بالذات وإشكالية العلاقة بين الذات والجماعة، وطرح الأسئلة حولها وحول إمكانية وجود ذاتٍ جماعيةٍ غير الذات الفرديَّة.

وتابعَ: ليس تَغَيُّر الهُوية بوصفها انتماءً إلى جماعةٍ ناجمًا عن الإرادة الحرة فقط، بل تبقى العوامل الرئيسة هي المعطيات الاجتماعية المتغيرة، وأن الانتماءات بجماعاتٍ قائمةٍ يولد فيها الإنسان وينتمي إليها عَاطِفِيًا وتسهم في تشكيل شخصيته وذوقه وقيمه وغيرها، ولا تنتهي بوجود أفرادٍ عاقلين آخرين يتواصل معهم على مستوياتٍ مختلفةٍ مثل العلاقة الشخصية من قرابةٍ وصداقةٍ وزمالةٍ وغيرها، ثم علاقة الانتماء المشترك إلى جماعةٍ من دون علاقةٍ شخصية، بحيث ترتسمُ الصورة وتتشكل التوقعات منه بناءً على هذا الانتماء المشترك أو ما يسمى بالهوية الجماعيّة. ولكن هذه كلها يمكن أن تتغيرَ وتتبدلَ، إذا استنفدت الجماعة وظيفتها بالنسبة إلى الفرد، أو إذا كانت الهوية الجماعية فقيرةً بالمضامين فلا يبقى منها سوى تأكيد التميز عن الآخر فتصبح عصبوية بلا مضمون، أو في حالة صراع بين الجماعة التي ينتمي إليها وبين جماعاتٍ أخرى، أو مع نشوء نظامٍ سياسيٍ جديدٍ في الدولة يشددُ على الهوية الوطنية أو الدينية، أو يعمل على تفضيل جماعةٍ على غيرها، أو يحاول أن يضمن الولاء للنظام بناءً على علاقاتٍ عشائريةٍ أو طائفية.

العصر الحديث:

وقالَ: إنَّ العصر الحديث حدث فيه ثورةٌ في أدوات تشكيل الهُويات وتركيبها بسبب وعي الأفراد لذواتهم، وقدرتهم على التنقل واختيار المهنة وغيرها، وبسبب تنامي دور الدولة والتعليم العمومي ووسائل الاتصال وصناعة الفولكلور، لافتًا إلى وجود نظرياتٍ في الهوية على مستوى تخصصاتٍ مختلفةٍ أهمها ما يفيد بوجود نزوع معرفي لدى الإنسان لتصنيف الناس إلى جماعات.

وأضافَ الدكتور عزمي بشارة: إن الإنسان الحديث يمتلك هويتين أساسيتين، هوية ذاتية فردية تتلخصُ بتعريف الإنسان لذاته وصفاته التي يختارها لكي يعتبرها أساسيةً في تعريف ذاته، وهوية اجتماعية بمعنى تعريف الإنسان لذاته بوصفه منتميًا إلى جماعةٍ أو جماعات، إذ يمكن في المجتمعات المعاصرة الحديث عن هوياتٍ اجتماعيةٍ للفرد وليس هوية اجتماعية واحدة، مؤكدًا في الوقت ذاته وضع الأفراد ضمن جماعةٍ يعني غالبًا قبول القيم والأعراف السائدة في هذه الجماعة.

وقالَ: إنَّ الامتثال الكامل لهذه الأعراف والتوقعات الاجتماعية يؤدي إلى قمع شخصية الفرد وقدرته على الحكم أَخْلَاقِيًّا وَعَقْلَانِيًّا على الأمور، ومن ثم قابليته لتطوير ذاته على نـحوٍ خلاق لا سيما في مقابل تقاليد تخنقُ ملكات الحكم هذه لديه.

الشخصية الحضارية:

وأكَّدَ في ختام حديثه أنَّ أصحاب الشخصية الحضارية ذات المكونات الغنية المنفتحة على التطور والتغيير والواثقة من نفسها بتأصلها في هوية الأفراد الجماعية لا يفزعون من التفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى، وأن العربي يملك هُوية ذاتية عربية عبر اللغة والثقافة، مُشيرًا إلى أنَّ اللغة الجامعة بين الفصحى والمحكية وآدابهما ليست أداة تواصلٍ فحسب، بل هي من أهم مكونات الثقافة والشخصية والوجدان أيضًا، وأن ثمن إنكار هذه الهوية هو تشويه ثقافي، فليست للعرب ثقافةٌ بديلة، قد يجد الأفراد لأنفسهم بدائل، ولكن لا يوجد بديل جماعي من الثقافة العربية.
وقالَ: إنَّ الهُوية العربية من أنجع المضادات للطائفيات على أنواعها، لأنها تنافسها بقوة على حلبة الهُوية والانتماء وليس على مستوى التنظير والنقاش العقلاني، وتملك المقومات لمنافستها، وإنه يوجد تكامل بين المكون العربي والإسلامي في الحضارة العربية الإسلامية، ولا يوجد تناقض أيضًا بين العروبة والمواطنة. فالهُوية العربية هي هُوية الأكثرية في البلدان العربية، وهذا لا يمنع أن تجمع المواطنين العرب بغير العرب الهُوية الوطنية والمواطنة المتساوية في دولة، مع احترام هويات غير العرب القومية والثقافيّة.
وأوضحَ أنَّ المواطنة هي أساس الانتماء إلى الدولة، وهي تصنعُ المشتركات الثقافية التي تميزُ مواطني دولة ما بالتدريج. وفي حالة ضعف المواطنة، تجري محاولة افتعال الهُوية الوطنية غالبًا بالتنكر للهُوية العربية المشتركة مع بقية الدول العربيّة.