اختتمت مساء أول أمس عروض الدورة الثالثة من مهرجان المسرح الجامعي “شبابنا على المسرح”، والذي تم دمجه مع فعاليات مهرجان الدوحة المسرحي العائد بعد غياب دام سنوات وسط احتفاء من أهل الفن الرابع.
عرضت 5 مسرحيات لـ5 جامعات على مدار 5 ليالٍ متتالية، وهنا نسجل حفاظ اللجنة المنظمة على نفس عدد العروض. أمر جيد من الناحية النظرية، خاصةً إذا احتكم إلى إبداء عدد أكبر من الجامعات رغبتها في المشاركة، واقتصر العدد بعد الفرز والتصفيات الأولية على 5 عروض تمر إلى مرحلة الإنتاج. أمر نتمناه مستقبلًا، لأن معيار المشاركة في الدورتين السابقتين انبنى على جودة النصوص المقدمة إلى اللجنة للمفاضلة بينها، وهذا حسب القانون الداخلي للمهرجان الذي يعطي الأولوية للنصوص التي يؤلفها الطلبة.
الغرض الرئيس من مسرح الشباب عمومًا هو اكتشاف واستقطاب المواهب، والعمل المسرحي ينطلق بدايةً من النص، وفي ظل الترويج لمزاعم بوجود “أزمة نص” في العالم العربي، فليس أجدى من البحث والاستثمار في مواهب تطمح للاحتراف في الكتابة المسرحية. أمر يناقش طبعًا، حيث إن النصوص الكلاسيكية مهمة جدًا في تثقيف الشباب، وأيضًا في منحها لفرص التعلم والتدريب والتجريب خارج المواسم الرسمية، لكنها ليست جميعها نصوص سهلة. حتى وإن كان خيار المهرجان السماح باختيار النصوص الكلاسيكية، يجب أن يتم ذلك عبر مختصين لدراسة وتفكيك النصوص بما يسمح لهم باستيعاب مضامينها وثيماتها وإمكاناتها بشكل أعمق، وهذا الأمر بنظري يجب ألا يقتصر على المخرجين، بل يجب أن يشمل جميع الفريق العامل بالمسرحية.
أيضًا، بخلاف الاعتماد على النصوص الكلاسيكية، شهدنا اقتباس النص القصصي “وادي العميان” لجورج هربرت ويلز إلى عمل مسرحي؛ خيار مفخخ بالمصاعب التقنية لأن الاقتباس ليس عملًا سهلًا، والأكيد أنه ليس عمل مبتدئين في الكتابة المسرحية. الاقتباس هو انتقال عامر بالاشتراطات من جنسٍ أدبي إلى جنسٍ أدبي آخر، ويتطلب معرفة عميقة ودقيقة بالجنسين الأصلي والمنقول إليه. وهو عبء يضاف على كاهل من قام بالاقتباس، الجندي المجهول الذي لم يظهر اسمه على كتيب العمل!
وما دمنا وصلنا إلى الكتيبات، فهناك عامل اشتركت فيه جميعها وهو تغييبها لتفاصيل مهمة. هناك نقاط متعارف عليها يجب تضمينها في الكتيبات والملصقات، فهي ليست عملًا فنيًا ينحاز إلى الشكليات فقط، بل وثيقة هامة، وعتبة استهلالية تدخل المتلقي في أجواء العرض. حتى من زاوية براغماتية بحتة يجب الاهتمام بمضمونها لأنها من بين النقاط التي يحيط بها أعضاء لجان التحكيم عادة في تقييمهم، وبعض المهرجانات تخصص علامات لها، ومن هنا يستوجب العناية بتضمين ملخص للعمل، وكلمة للمخرج والكاتب إن كان النص أصليًا، بخلاف فريق العمل التقني والفني.
هناك تفاوت صارخ في مستويات العروض المقدمة بين الذي بدا متكاملًا إلى حدٍ بعيد لدرجة الاعتقاد أنه ضل طريقه عن مهرجان محترف ليجد نفسه في مهرجان للمسرح الجامعي كعرض “ما وراء سنتارا”، وذلك الغارق في محنة البدايات المتعثرة كعرض “وادي العميان” الذي كابد ممثلوه بجهود فردية عناء تغطية ضعف إخراجي بيّن. مع هذا، فإن المستوى كان على العموم مقبولًا ومتناسقًا مع روح المسرح الجامعي في سعيه لنشر ثقافة الفن الرابع بين نخبة المستقبل، والإبقاء عليهم ضمن دائرة المتلقين أو الممارسين، فالمخرج الشاب إبراهيم لاري مثلًا هو ثمرة لـ”مهرجان شبابنا على المسرح” في دورته الأولى، وهو لم يكتفِ بالمشاركة به للعام الثالث على التوالي، بل انتقل مؤخرًا وسط احتفاء ودعم مؤسسي إلى المسرح المحترف، حتى إنه يشارك في مهرجان الدوحة المسرحي هذا العام بعرضين، واحد ضمن مهرجان المسرح الجامعي، وآخر في ختام مهرجان المسرح المحترف. انتقال سريع له ما يبرره، لكن يجب أن يشمل دائرة أوسع من المواهب في مفاصل أخرى من الصناعة كالكتابة، والسينوغرافيا، وأيضا الكوريغرافيا الغائب الأكبر عن اهتمامات مخرجي هذه الدورة.
هناك أمورٌ كثيرة تستحق التنويه والإشادة، كالمشاركة النسوية المميزة في المهرجان ما تجلى بشكل واضح في السيطرة الكاسحة لتاء التأثنيث في عرض “الفيل يا ملك الزمان”. أيضًا التنوع الرهيب في المواهب التمثيلية المشاركة في عروض المهرجان، أمر تم توظيفه بذكاء في العرض الأخير “مجلس العدل” الذي تمكن ممثلوه من تجاوز عثرة سينوغرافيا لم تخدم العمل لا شكلًا ولا مضمونًا، إلى احتفاءٍ بالتنوع المجتمعي في قطر عمومًا، والجامعة القطرية بالخصوص، بالاستثمار في مفارقة اختلاف اللهجات، ما خلق أفضل “الإيفهات” الكوميدية خلال المهرجان. خيار ما كان لينجح لو عرض العمل الذي ألفه الكاتب الكبير الراحل توفيق الحكيم في لغته الأصلية، وهنا يجب التشديد على ضرورة الحرص على سلامة اللغة في الأعمال المقدمة باللغة العربية، المظلوم الأكبر في عروض هذه السنة. من غير المعقول أبدًا أن تقدم عملًا بالفصحى لجمهور نخبوي إن كنت ستنصب الفاعل، وترفع المنادى، وترمي بقواعد اللغة في خبر كان.
في الأخير نشكر سعادة وزير الثقافة على الاستجابة للمطلب المشروع لأهل المسرح بإعادة بث الحياة في المهرجان المتوقف، ونرجو من القائمين عليه من الأصدقاء والزملاء في مركز شؤون المسرح مراجعة خيار دمجه مع مهرجان المسرح المحترف، فنـحن في مسيس الحاجة إلى حراكٍ مسرحي على مدار العام، وفك الربط الطارئ سيضمن توزيعًا أفضل للمهرجانين على أجندة الفعاليات السنوية. أيضًا نتطلع إلى عودة مهرجان المسرح المدرسي “عيالنا على المسرح”، لأن أي تطوير ثقافي حقيقي على المدى الطويل يبدأ في الاستثمار في بذرة صالحة على مدار سنوات من التأهيل والتدريب.
من حقنا جميعًا أن نتفاءل بعدما رأيناه، لكن يجب أن يكون التفاؤل مشفوعًا برعاية مستحقة لأصحاب المواهب، تنقلهم من دائرة الهواية إلى دائرة الاحتراف ما يغني الساحة المسرحية القطرية والعربية في المستقبل.
في مديح التفاؤل المدروس لمسرح الشباب
22 مارس, 2022