انطلقت أمس أولى فعاليات موسم الندوات، الذي تنظمه وزارة الثقافة بالشراكة مع جامعة قطر والمركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، وذلك بحضور سعادة الشيخ عبدالرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثقافة، الذي أكد أننا قصدنا من وراء موسم الندوات إتاحة الفرصة للإثراء باختلاف وجهات النظر، وذلك لترسيخ ثقافة تقبل وجهات النظر الأخرى.

وتابع: في اعتقادي أن مثل هذه النقاشات ستثري مجتمعنا باختلاف وجهات النظر، وباختلاف الآراء، وتأكدوا في نهاية المطاف أن وزارة الثقافة سوف تدون هذه الأفكار وتلك المرئيات لأخذها في عين الاعتبار. ووجه وزير الثقافة الشكر إلى الحضور على هذه الندوة الطيبة.

ويعد موسم الندوات هو الأول من نوعه في الدوحة، مستهدفًا إثراء النقاش والحوار، حول العديد من القضايا الثقافية والفكرية والفنية، وحملت أولى ندوات هذا الموسم عنوان “الهويات إنسانية أم محلية؟ الثقافة وتعدد الهويات”، وأقيمت في معهد الدوحة للدراسات العليا، وحاضر فيها كل من الكاتب الأستاذ عبدالعزيز الخاطر، ود. حيدر سعيد، رئيس قسم الأبحاث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ود. أمل غزال، عميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، وأدار الندوة الإعلامي حسن الساعي، وذلك وسط حضور عدد كبير من النخب الثقافية والأكاديمية والدارسين، الذين أثروا الندوة بمناقشات عديدة حول ما أثير حولها، وتحديدًا فيما يتعلق بالهوية.

معايير الهوية

وطرح الأستاذ عبدالعزيز الخاطر بعض الملاحظات والتساؤلات عن الهوية، وهل هى إنسانية أم محلية؟ واستبق إجابته. بالقول: إنه لا يملك إجابات عنها، بقدر ما نقله من أسئلة في هذا الصدد. لافتًا إلى أن الهوية الإنسانية موجودة بـ”القوة”، وتتنزل كـ”فعل” حسب ظروف هذا الواقع ومستجداته.

كما أشار إلى بعض المعايير التي يمكن من خلالها التفريق بين الهوية الإنسانية والأخرى المحلية، وإن كان لا يرى تقابلًا بين الهويتين حيث يمكن أن تكون الهوية محلية وإنسانية في آن، إلا إذا كان المقصود الهوية “الضيقة”، على حد تعبيره.

وحدد هذه المعايير في عدة جوانب، منها أنه لا يمكن طرح الهوية دون تناول موضوع الحرية، إذ لا يمكن الفصل بينهما، وأنه طالما يولد الإنسان أولا ثم يكتسب حريته، فإن الأخيرة تأتي هنا قبل الهوية، ما يجعل الأصالة هنا للماهية (الحرية).

ومن بين المعايير التي تحدث عنها الخاطر، أهمية الوعي بأن الهوية جزء من “الإمكان”، وليست كل “الإمكان”، لافتًا إلى معيار جديد، ويتعلق بالتأسيس في مقابل الاستئناف، والذي يعني جعل الهوية مرحلة وسطى باتجاه الماهية الإنسانية، وليست ثباتًا طاردًا للتطور في العلاقة مع الآخر.

ولفت إلى أن خصائص الشخصية المحلية التي وصفها بـ”الضيقة” تكمن في ثلاثة جوانب، هى التمسك بالهوية على حساب الحرية، وأنها تأسيس مستمر، وليست استئنافًا للتعايش، وفي المقابل فإن خصائص الهوية الإنسانية تكمن في الماهية، والإمكان، والاستئناف.

وشدد في ختام مداخلته على أهمية الدور التوعوي للمؤسسات الثقافية والأفراد، وتجنب تصنيف البشر حسب أصولهم، واتباع البنية الأفقية، حيث العلاقة المباشرة بين الناس، وهى العلاقة المبنية على التنوع المجتمعي، واعتبار أن كل فرد جزء من الآخر.

منبع الهوية الخليجية

أما د. حيدر سعيد، فتناول منبع الهوية الخليجية وتشكلها وسياقاتها، ومدى الوعي بها، بالإضافة إلى حديثه عن نشأة سرديات الهوية. ولم تغفل مداخلته الحديث عن تشكل الهوية الخليجية، ورأى أنها نشأت في سياقات محددة، حيث يجري إبراز أحد جوانب هذه الهوية على حساب الجوانب الأخرى فتنشأ حركة تستند إلى هذه الهوية والمثال الكلاسيكي هو الهوية العربية في القرن التاسع عشر، على حد قوله.

ولفت إلى أن الهوية العربية ظلت حاضرة بقوة وذلك نتاج ما تضمه من نخب، ما جعلها تعويضًا أو بديلًا عن الهويات الوطنية. مؤكدًا أن الهوية مُعطًى تاريخيًا ، وهي شيء مركب ولها منبع معين، وأنه ليست هناك هوية واحدة، سواء للأفراد أو الجماعات، ما يشير إلى أن الإنسان قد تكون له عدة هويات.

وقال: إن المجتمعات الخليجية كانت نقطة جاذبة للهجرات بسبب وضعها الديموغرافي، ما جعلها جاذبة للكوادر العاملة، استقطابها لكثير من النخب.

هويات البحر والصحراء

من جانبها، حملت مداخلة د. أمل غزال، عنوان “الخليج وهوية في هويات: البحر والصحراء، الاقتصاد والدولة الحديثة”، وتناولت البعد البحري في الهوية الخليجية كموضوع تاريخي متجذر ومصدر فخر واعتزاز في بعض المجتمعات الخليجية ومنها المجتمع القطري حيث أصبح الغوص على اللؤلؤ جزءًا من تجليات الهوية المحلية ويحظى بثقافة خاصة.

وقالت إن هناك ترابطًا بين مستويات الهوية بين المحلي وطنيًا والإقليمي خليجيًا أو عربيًا أو إسلاميًا والإنساني عالميًا، لافتًا إلى أن لكل من الثقافة والهوية محدداتهما، سواء الواقعية أو المتخيلة. وقالت إن الهوية الخليجية تتجلى بهويات محلية متعددة تنتمي لهذا التاريخ المشترك، وأنه لا فرق بين هوية خليجية وأخرى خليجية، إذ المقصود جمعيًا، هو الهوية الثقافية بكل ما تحمله من أبعاد وتمثيلات وتجليات.

وتابعت: إنه بين البحر والصحراء، تلتقي الهويات الخليجية فيما بينها وتتقاطع مع هويات ثقافية ودينية أخرى، وهى تقاطعات أنتجتها البحار والرياح الموسمية والهجرات والتجارة بشتى أنواعها، وتغيرات المناخ وغيرها من العوامل. لافتًا إلى أحد روافد الهوية الخليجية، وهو الرافد الاقتصادي، الذي اعتبرته ناشئًا عن اقتصادات النفط والغاز وأتاح تثبيت دعائم الدولة الحديثة في الخليج من حيث القدرة على التحديث وإنشاء البنى التحتية اللازمة لتحديد وتثبيت هوية وطنية.

مداخلات المتحدثين تثير تفاعل الحضور

أثارت المحاور التي طرحتها الندوة حول كيفية تشكيل الهويات والثقافات، ودور الجغرافيا والتاريخ في تشكيل الهوية الخليجية المشتركة، عددًا من الحضور، الذين تفاعلوا مع هذه المداخلات، مؤكدين أن الهوية هي صمام أمان للمجتمع.

وأكد سعادة السيد خالد بن غانم العلي، أن استهلال الندوة كان ينبغي له أن يتوقف عن تعريف الهوية، معرجًا الحديث عن الهوية القطرية. وقال: إنها لم تكن هوية حديثة، شأنها في ذلك الهوية الخليجية، والتي تعززت وفق العديد من العناصر.

وهو ما علقت عليه د. أمل غزال بالتأكيد على أن الهوية عبارة عن هويات مكتسبة، غير أنه قد تكون هناك هويات بالمصادفة، وأنه في كل الأحوال، فإن الهوية تحددها مجموعة من العوامل.

وبدورها، قالت الكاتبة مريم ياسين الحمادي، مدير إدارة الثقافة والفنون والمدير العام للملتقى القطري للمؤلفين: إن المشاركة الكبيرة التي شهدتها الندوة تعكس مدى تأثير الهوية في المجتمع. لافتًة إلى أهمية ارتباط تعريف الهوية بالضمير”هو”. وتوقفت عند مداخلة الكاتب عبدالعزيز الخاطر، واصفًة إياها بالطرح المهم، والذي تناول عمق الهوية.

ومن جانبها، رأت الباحثة حنان علي الشرشني أن هناك قلة في الدراسات المتعلقة بالهوية الخليجية، وبالأخص القطرية. وتساءلت عن سبب عدم تناول الهوية القطرية في العديد من الدراسات والأبحاث الأكاديمية، وهو التحدي الذي واجهها، أثناء إعدادها لأطروحة الدكتوراه.

غير أن الكاتب عبدالعزيز الخاطر رد أن هناك العديد من الكتب التي تناولت الهوية، ومنها ما أنجزته الكاتبة بثينة الجناحي، بالإضافة إلى مقالاته المنشورة.

وفي هذا السياق، قال د. حيدر سعيد: إن الحديث عن تعريف الهوية لا يعني بالضرورة المطابقة بين الهوية الإنسانية، والأخرى المحلية. لافتًا إلى أن هناك إطارًا واسعًا لدراسة الهوية، وإطارها السياسي. مثمنًا هذه الندوة التي وصفها بأنها توفر فضاءً من النقاش الحر، وأن وجود هذا الفضاء أمر شديد الأهمية.

وشددت الأستاذة إيمان السليطي بمعهد الدوحة للدراسات العليا، على أهمية قبول الهوية الأخرى، وأن رفضها أو التقليل منها، سيفضي إلى العنصرية.

وأثار الحديث عن تعدد الهوية بعض الحضور، الذين حذروا من خطورة هدمها، وهو ما رد عليه الكاتب عبدالعزيز الخاطر بأنه لم يدع أبدًا إلى هدم الهويات، بقدر دعوته إلى أن تكون هناك هوية وسطى، وأنه يجب استئناف الهويات، وليس هدمها، مع ضرورة طرح “الإمكان”.

وبدوره، تساءل الكاتب جاسم سلمان، عن الفرق بين الحضارة والثقافة، وهل تنعكس الحضارة على الآخر في دول الخليج. لافتًا إلى أن اللغة عنصر أساسي في تشكل الهوية.

وهو ما رد عليه الكاتب عبدالعزيز الخاطر بأن اللغة عامل مهم، وإن كانت ليست هدفًا في حد ذاته حتى لا تصبح هناك إشكالية، ولذلك فإنه يمكن اعتبارها أداة لتشكل الهوية.

وبدورها، قالت الأستاذة هنادي موسى زينل إن هناك وعيًا كبيًرا لدى الشباب القطري في الارتباط بهويته. لافتًا إلى أن هذه الشريحة أصبح لديها إقبال على القراءة، أكثر من أي وقت مضى، بالإضافة إلى الإقدام على إنجاز الأبحاث والدراسات التاريخية.