كلما أثيرت قضية أدب الطفل في أي منتدى يبرز إلى سطحها سؤالان أساسيان: ما هو دور المبدع؟ وإلى أي حد تقوم الجهات الرسمية برعاية ذلك النوع الصعب من الأدب؟ والحقيقة أن صعوبة الكتابة للأطفال، وقلة ممارسي ذلك النوع من الكتابة الإبداعية مشكلة تعاني منها جميع الشعوب، وليس نـحن في البلاد العربية فقط، فالدول الاسكندنافية لم تشهد ظاهرة كالأخوين «غريم» بعد قرن على إبداعهما المدهش، وبريطانيا أم الثقافة الإنجليزية في العالم ظلت عدة حقب بلا كتاب مميزين للأطفال قبل ظهور «اي جي رولينغ» مؤلفة كتب «هاري بوتر» الذي تحول إلى علامة فارقة في تاريخ كتب الأطفال في العالم، وصار ظاهرة ينتظر فصولها الكبار والصغار قبل أن تكتمل فصوله، ويتحول إلى سلسلة أفلام ناجحة عبرت عن تبدل المناخ الثقافي الذي لم يعد فيه أدب الطفل مجرد كتاب بل عمل متكامل يختلط فيه الورق بالفنون السمعية والبصرية التي تظل الأقرب إلى عالم الصغار.
عربيًا بقينا نعيش الإشكال العالمي ذاته ونتساءل عن قلة المنتج في الساحة الثقافية لأدب الطفل، وها نـحن بعد سنوات عديدة من بروز زكريا تامر وعبد التواب يوسف في مجال الكتابة للطفل العربي نتلفت فلا نجد الكثير من الأسماء التي دخلت إلى ذلك الحقل الشائك الذي لا تنمو زهوره بدعم الدولة وحدها بل في ازدهار المناخ الثقافي بشكل عام وقيام حركة تكامل بين الكاتب والمخرج والمطبعة وقنوات الإنتاج التلفزيوني، ومن حسن الحظ أننا كنا في قطر من الدول التي شجعت الكتابة للطفل، والإنتاج التلفزيوني المتعلق به، فهناك مراكز لآداب الطفل ترعاها وزارة الثقافة بل إن في معارض الكتاب جناحًا أو أجنحة لأدب الطفل، ناهيك عن جائزة أدب الطفل التي أنشأتها الدولة، وهي من الجوائز القليلة التي تمنح لهذا النوع من الكتابة في العالم العربي.
ولم يتوقف الأمر عند القنوات التلفزيونية والجوائز بل امتد الى المنشآت فقد فتح مسرح قطر الوطني أبوابه منذ أيامه الأولى لإنتاج مسرح الطفل، وحين أنشئت «كتارا» ذلك الصرح الثقافي الذي تفخر به قطر روعي في تصميمه أن يكون فيه أمكنة وقاعات خاصة بالطفل وثقافته وفنونه، ومن دلائل الاهتمام الرسمي بهذا الجانب دعم النوادي والمراكز الثقافية التي تهتم بالمرأة والطفل معًا، ومن ذلك كله نلاحظ أن المؤسسة الرسمية لم تقصر في الرعاية لهذا النوع من الآداب والفنون، لكن هناك حلقة مفقودة يجب أن نعمل على إيجادها جميعًا، وهي الجهة التي تنسق بين هذه المؤسسات كلها وبين المدارس والمراكز التعليمية، فدون إشراك قطاعات التعليم بأنشطة ثقافة الطفل وفنونه تزداد الثغرات وتضيع البوصلة بين المبدع والداعم والمتلقي.
وبالنسبة للمبدعين والمبدعات ودرجة اقترابهم من هذا المجال، فهي ما تزال محدودة، وهذا ينطبق على كافة المجالات الإبداعية، فنحن لا نخجل من القول أننا دولة ناشئة وأن المناخ الثقافي قبل قيام الدولة الحديثة لم يكن يملك ترف الأنشطة الثقافية الموجهة للأطفال، ومن شأن وجود مناخ محايد – حتى لا نقول «مناخ سلبي» – لا يقدم كثيرون على طرق هذا الباب، واذا كان لابد من توصيف الحقائق كما هي فإننا لم نشهد قبل النهضة التعليمية المباركة التي ندين لها بتفتحنا الثقافي الكثير مما يشجع المبدعين والمبدعات على الكتابة في هذا الصنف الصعب باعتراف الثقافات جميعها.
أما عن تجربتي في هذا المجال فقد بدأت متواضعة خجولة في المراحل الدراسية الأولى، فقد تأثرت بمجلات الطفل التي كانت تصلنا من خلال مكتبة المدرسة أو متقطعة من خلال زيارات متباعدة لمنافذ البيع لمثل هذه المجلات، أو بيد إحدى الصديقات، وقد كان لهذه المجلات كل الأثر الإيجابي في تكون بذرة الكاتب الصغير لدي وما زلت أدين بالولاء لكل من قدم لي مجلة تحمل الحكايات، والرسوم والألوان الزاهية، ثم أخذتني القصة القصيرة من أدب الطفل الجميل وأبعدتني الدراسة الأكاديمية عن ذلك المجال الخصب، إلى أن استيقظ الحلم من جديد مع مجموعتي «النبع الذهبي والأخيار الثلاثة» التي صدرت عام 2012 وأعد رسومها الفنان الكبير سعيد الفرماوي، وهنا لابد من ملاحظة أن أدب الأطفال ككتاب يحتاج إلى جهد الكاتب والرسام معًا، وربما كان فهم الثاني للنص وتجسيده له من أهم عوامل نجاح الكتاب فالطفل وقبل حب القراءة تسحره الرسوم الشيقة والألوان التي تعبر أكثر من الكلمات المكتوبة عن روح الشخصيات في العمل.
إن صعوبة أدب الطفل التي نشير إليها كلما تحدثنا في هذا المجال تنبع من صعوبة مخاطبة المخيلة الجامحة التي يتمتع بها الصغار، ولعلي أقول إن الذي يدفع كل إنسان مبدع للنجاح في الكتابة للأطفال هو قدرته على الاحتفاظ بالدهشة أمام الأشياء والعالم، فدون تلك الدهشة المخزنة، ودون ترتيب مدروس، وفهم للأرواح الحرة لا يمكن الاقتراب بنجاح من عالم الأطفال.
وفيما يتعلق بالمناخ الثقافي وتبدلاته دعونا نتفق أن عالم الإليكترونيات والفنون السمعية والبصرية أصبحت من أهم منافسي الكاتب الذي لا يملك بعد اليوم أن يكون تقليديًا ويكتب لقارئ فقط، فنحن اليوم أمام عوالم مدهشة تقدمها التكنولوجيا الحديثة وعلى المبدعة والمبدع أن يدركا أن ما يخطانه على الورق سيتحول يومًا ما إلى المسرح والتلفزيون مما يلزمهما بتعلم تقنيات تلك الفنون التي ستزيد من قدرتهما على الإبداع والكتابة القادرة على التوصيل لكل الأعمار.
ودعوني أختم بالقول إن نجاح أي إبداع يحتاج إلى مناخ حر لا تكبحه التقاليد، وإن في داخل كل منا طفل لم يجد الفرصة صغيرًا ليشبع من دهشة المخيلة، وهذا يعني أن أنجح الكتابات هي تلك التي توجه للكبار والصغار معًا، وربما ذلك هو سر المعادلة التي جعلت «هاري بوتر» وعالمه السحري من أهم إنجازات ثقافة الطفل في العالم، وهي المعادلة التي بنيت عليها إصداري الأخير «قمط» أو لنقل إن عنوانه هو «قصة مجلة طفل» كتاب يحمل حكايات المجلات الاولي والتي بعضها ما يزال يصدر في أنـحاء الوطن العربي، بنفس معادلة «كتاب لكل الأعمار» أقدم للمكتبة العربية كتابًا جديدًا بعنوان «قمط».
أدب الطفل بين الرسمي والشخصي وتبدلات المناخ الثقافي والاجتماعي
28 أكتوبر, 2021
