إن الكتابة عن استشراف المستقبل، خاصة بعد تطور الثورة الصناعية واختراع الحاسوب، وظهور شبكة الانترنت، وتنبأ الكتاب والمؤلفين بالمستقبل وحياة الناس فيه وكيف ستتغير أحوال الناس في كثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والحياتية وغيرها، لأمر ليس بالسهل على كل مؤلف أو كاتب. إن كل من يتابع إنجازات العالم في مجال العلم والتكنولوجيا المتسارعة، يسأل نفسه، ما دلالة هذا التطور، وما أثره على حياة الفرد والمجتمع والعالم؟ وما سوف يحدثه هذا التطور من تغير في القيم والثقافات، وفي نظرتنا للعالم؟ وهل سيغير أسلوب ونمط حياتنا؟ وما نوعية التعليم الذي نحتاجه؟ وما الخيارات التي سوف تكون متاحة أمام البشر في شتى نواحي الحياة؟
وهكذا يرى المؤلف والكاتب رؤية المستقبل محسورة داخل إطار حياتي إنساني واسع ابتداء من الحياة الشخصية والمنزلية وحتى قضايا الإرهاب والفحص النووي DNA وآثارها على الفرد والمجتمع، والأبحاث المتعلقة بالعالم السيبري، عالم التفاعل والتعامل عبر الشبكة الإلكترونية (الإنترنت).
من هنا فإن أصعب الأسئلة التي يواجهها المؤلف والكاتب، هي لمن يكتب؟ وماذا ينبغي عليه أن يكتب؟ وما تخيله لما سيكون عليه الموضوع الذي سوف يتناوله في المستقبل حسب ما لديه من معطيات ؟ وما قدر الحرية لديه في الكتابة؟
فالكتابة حياة ثانية للكاتب والقارئ، وهي سفير العقول ووحي الفكر وسلاح المعرفة، والكتابة تأكيد للذات وإحساس بالحرية واستشراف للمستقبل وتنبؤ بالمجهول وإبداع وخيال.
والكتابة عمل إنتاجي في حقيقته له بعدان أساسيان هما المكان والزمن الأول لمنح الخصائص وتكوين السمات وتأكيد الملامح والثاني لتحقيق المسار والدخول في أساسيات حركة الحياة والتاريخ، كما أن الكتابة في حقيقتها انتماء يؤكد قيمة الفرد، حيث إن سمات الرؤية الفكرية الذاتية أو الشخصية تتمثل لنا من خلال الكتابة، وتشكل هوايتها النهائية، ذلك أن الكتابة ما هي إلا تعبير عن القيم التي ننتمي إليها في حقيقة الأمر، ومن ثم تكون قدراتنا على الكتابة ما هي إلا تأكيد على وجود مفهوم ما أو قضية، لذا فإن القضية الحقيقية هي التي تطرح سؤالاً أو تعمق دوراً، أو تنهض مسؤولية، وهو الأمر الذي يؤسس لأرضية يمكننا الانطلاق نحو أهدافنا المستقبلية برؤية أوسع مدى، فالكتابة تحمل في داخلها القدرة على الفصل في أن يكون لا تأثير لها.
وهنا أود التأكيد على أن الحرية هي عماد كل تفكير سليم، ولا يكون الفكر في تكوينه جوهراً من دون حرية، فالحرية في الفكر والكتابة، وفي حياة المؤلف والمفكر ضرورة اجتماعية، فهي وحدها التي تنهض بالوعي وتقيمه على أسس صحيحة، ومن ثم فإن الحرية لا غنى عنها في الكتابة ولأنها تنم عن انتماء بقضية ما أو إيمان بفكرة ما، وبغير الحرية لا يمكن للمؤلف أو الكاتب أن يحقق ذاته على نحو موضوعي من خلال كتابته، أو تكون له القدرة على الكشف والاكتشاف والمكاشفة، أو بلغة المؤلف، أن يكون ضمير عصره وليس مجرد شاهد على العصر فحسب، على اعتبار أهمية دور المؤلف والكاتب كدور مرهون بالمعرفة والتغيير والتجاوز، وهي من المهام الصعبة التي يرتهن وجود الكتابة بها، ذلك أن المعرفة هي وسيلتنا في التصرف على الواقع ومن ثم القدرة بعد ذلك على تحقيق التغيير المطلوب واستشراف المستقبل. فالحرية مرتبطة أشد الارتباط بالكتابة كدور له أحقيته في إثبات الوجود، ذلك أن ممارسة الحرية أكثر ما يظهر من خلال فعل الكتابة كنوع من التأثير والتأثر.
يبقى أن أؤكد أن استشراف الكتابة يحتاج من المؤلف والكاتب في كتاباته مراعاة ما يلي:
– إعمال الفكر والخيال في كتاباته بغض النظر عما إذا كان احتمال تحقيق ما يكتب حوله بنسبة كبيرة أو صغيرة وهو ما يؤدي إلى توسيع نطاق الخيارات البشرية.
– التركيز على فحص وتقييم المستقبلات الأكبر احتمالاً للحدوث خلال أفق زمني معلوم، ووفق شروط محددة.
– البحث في طبيعة الأوضاع المستقبلية المتخيلة وتحليل محتواها ودراسة أسبابها وتقييم نتائجها.
– الاجتهاد في تطوير مناهج وأدوات البحث في المستقبل.
– مراعاة الأسس والقيم الأخلاقية في المستقبلات المرغوب فيها.
– تفسير الماضي وتوجيه الحاضر، فالماضي له تأثير على الحاضر، وعلى المستقبل، فالكثير من الأمور تتوقف على كيفية قراءة وإعادة قراءة الماضي.
– مراعاة التكامل بين المعارف المتنوعة والقيم المختلفة من أجل حسن تصميم الفعل الاجتماعي، لأن معظم معارف المستقبل تنتمي إلى علوم ومجالات بحث متعددة لها خبراؤها المتخصصون.
– الحرية والديمقراطية للتفكير المستقبلي لعامة الناس في اقتراح وتقديم الصور البديلة للمستقبل.
والخلاصة هي أن أفضل أسلوب للكتابة عن المستقبل وعن حياة الناس في ظل إنجازات العلم والتكنولوجيا، هو الكتابة من نوع أدب الخيال العلمي، وهذا ليس شطحات خيال، بل واقع موضوعي يتجاوز حدود خيالنا الراهن الذي هو بدوره وليد مستوى علمي وتكنولوجي ستراه أجيال المستقبل غداً واقعاً متخلفاً.
*كلمة الأمين العام للجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم في الملتقى القطري الثالث للمؤلفين.